تاريخ النشرالخميس 8 مايو 2025 ساعة 12:18
رقم : 315176
السيرة الثقافية والحضارية للإمام الرضا(عليه‌السلام): نموذج لإحياء الحضارة الإسلامية
سيد عبد الله ناياب / الإمام الثامن للأمة الإسلامية وسليل الدوحة النبوية الطاهرة، الإمام علي بن موسى الرضا (عليه‌السلام)، يتمتع بحياة مباركة ذات أبعاد متنوعة ومراحل متباينة، قابلة للدراسة في مجالات شتى، كلٌ بحسب مقارباته. ومن أبرز هذه المجالات، مسألة الثقافة والحضارة الإسلامية. وفي هذا المقال المختصر، نحاول تسليط الضوء على البُعد الثقافي والحضاري من خلال السيرة العملية للإمام الرضا (عليه‌السلام).

كما يعتقد خبراء الثقافة والحضارة، فإن الحضارة هي المظاهر المادية والفنية والتقدم العلمي للمجتمع، وتُعد الثقافة مقدّمة وأساسًا لها. ولا يمكن لأي حضارة أن تستقر أو تدوم أو تؤثر بفعالية ما لم تكن مترافقة مع ثقافة غنية وقوية.
وقد أثبت التاريخ أن الحضارات التي لم تكن مسنودة بثقافة راسخة لم يُكتب لها البقاء. وفي زمن الإمام الرضا (عليه‌السلام)، كانت الثقافة الإسلامية قد تجاوزت الحدود الجغرافية وانتشرت في أراضٍ شتى.
ويشهد التاريخ بوضوح على أن الإمام الرضا (عليه‌السلام)، من خلال دعم أنصاره وتقويتهم، سعى إلى النهوض بالحضارة الإسلامية، خصوصًا من خلال تعزيز الثقافة القرآنية، وهي ثقافة تشمل المعتقدات والتقاليد والعادات الاجتماعية، من قبيل الأخلاق، والمباحث العقدية، والسنن الدينية. وكان الإمام يسعى لجعل عقائد الناس منطقية ومنسجمة مع الوحي، وأن تكون أخلاقهم مبنية على أخلاق المعصومين والفطرة الإنسانية النقية. وكان دائمًا يقف بوجه التقاليد الخاطئة والخرافات، ويعمل في المقابل على إحياء السنن القيّمة.
كان للإمام الرضا (عليه‌السلام) اهتمام خاص بالعلم والمعرفة، حتى نشأت بعد عصره "حركة الترجمة"، حيث انكب المسلمون على ترجمة الأعمال العلمية لبلدان كاليونان وإيران، واستمر عصر ازدهار الحضارة الإسلامية لقرنين أو ثلاثة بعده.
ومن بين الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام)، يُعد الإمام الرضا (عليه‌السلام) الأكثر مشاركة في المناظرات والمناقشات الفكرية مع أعلام الأديان والمذاهب الأخرى. ففي زمن المأمون العباسي، حيث أُجبر الإمام ظاهريًا على قبول منصب ولاية العهد، كان رجال الأديان السماوية مثل علماء اليهودية والمسيحية والمجوسية، وحتى أتباع الأديان غير السماوية كالهندوس والبرهمية، يفدون إلى مرو ليناقشوا الإمام.
وكان الإمام في هذه المناظرات العلمية لا يسعى إلى التفرقة أو المواجهة، بل إلى السلم والوئام والتفاهم. وكان يعامل خصومه بكل احترام ويجيب على تساؤلاتهم بعقلانية. وكان اللافت في الأمر أنه كان يستخرج أجوبته من كتبهم الدينية نفسها ويشرحها بوضوح.
ويؤكد المؤرخون والمفكرون الثقافيون أن مناظرات الإمام الرضا (عليه‌السلام) كانت عقلانية ومبنية على الاحترام، بحيث أن الكثير من المشاركين فيها كانوا إما يعتنقون الإسلام في نهايتها، أو يعترفون بالمكانة العلمية للإمام ويُعجبون بشخصيته النبيلة والمضيئة.
إن المعصومين (عليهم‌السلام) جميعًا كانوا يعملون بتوافق تام في المبادئ والأسس والسيرة العامة، مع اختلاف طفيف في الأساليب التنفيذية تبعًا لظروف الزمان. والإمام الرضا (عليه‌السلام) كان، بالإضافة إلى اهتمامه بالقضايا السياسية والاجتماعية، يعمل جاهدًا على نشر الإسلام الأصيل بقراءة أهل البيت (عليهم‌السلام). وكان يعلّم الناس الأخلاق والعقيدة ونمط الحياة الإيمانية عمليًا من خلال سلوكه.
وقد أولى الإمام الرضا (عليه‌السلام) اهتمامًا بالغًا لمسألة تعزيز الثقافة الإسلامية وكيفية تفاعل هذه الثقافة السامية مع ثقافات وحضارات الأديان والمذاهب الأخرى، سواء على المستوى المعرفي النظري أو السلوكي العملي. ويمكن تلخيص هذا النهج في محاور رئيسية:
أولًا: ترسيخ مكانة القرآن وأهل البيت في المجتمع
عمل الإمام على تعزيز الارتباط بالمصادر الأصلية للدين، أي القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم‌السلام)، وذلك بهدف حماية الأمة من الانحرافات الفكرية والروحية.
ثانيًا: إحياء سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسيرة أهل البيت (عليهم‌السلام)
كان الإمام ينتهز كل فرصة لإحياء سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام)، وإصلاح ما أحدثته السلطة من بدع وانحرافات. ومن أبرز الشواهد على ذلك قصة صلاة العيد، حيث أصرّ الإمام على أداء الصلاة كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وأمير المؤمنين علي (ع)، رغم الضغوط التي مارسها المأمون.
ثالثًا: تبيين وتثبيت المعارف، خاصة مسألة الإمامة
كان الإمام  الرضا يجيب على الشبهات العقائدية ويشرح مسألة الإمامة بمنهج علمي رصين، وكان يُعد مرجعًا فكريًا وعقائديًا للأمة جمعاء، لا لمجموعة محدودة من أتباعه فقط.
رابعًا: رعاية النخبة العلمية
أولى الإمام الرضا (عليه‌السلام) أهمية كبرى لتنشئة النخبة العلمية، ما ساهم في نمو الوعي العلمي داخل الأمة الإسلامية، ورفع مكانة أتباع أهل البيت في الوسط الإسلامي. ومن أبرز تلاميذه زكريا بن آدم، حسن بن محبوب السَرّاد، صفوان بن بجلي، وعلي بن إسماعيل الميثمي، الذين كان لهم تأثير علمي بارز حتى بين علماء المذاهب الأخرى.
النتيجة:
إن حياة هذا الإمام العظيم، بكل ما تحمله من عظمة وعمق وتنوع، قد تحقق معظمها خلال عمره القصير نسبيًا. فقد استمرت إمامته قرابة تسعة عشر عامًا من عمره الشريف البالغ خمسة وخمسين عامًا، لكنها كانت كافية لترك أثر عميق في واقع الأمة الإسلامية، من خلال توسيع وتعميق المعاني الحقيقية للإسلام، وتعزيز الصلة بأهل البيت (عليهم‌السلام)، والتعريف بمذهبهم المبارك. وهذا الأثر يُعد قصة مدهشة وبحرًا عميقًا من العطاء.
وكل ما في سيرة الإمام الرضا (عليه‌السلام) الثقافية، يُعد درسًا عظيمًا ومصدر إلهام لجميع الناس، خصوصًا العاملين في المجال الثقافي والمحبين للحضارة الإسلامية. فالتمسك بسيرة أهل البيت (عليهم‌السلام)، ولا سيما الإمام الرضا (عليه‌السلام)، والعمل على شرحها وتعليمها، يُسهم في بناء مجتمع سليم وهادف ويكون نموذجًا يُحتذى به. كما أن هذه السيرة تُعزز من القوة الناعمة للثقافة الإسلامية، وتُمهد الطريق للتأثير في القلوب والعقول من خلال عناصر الثقافة والقيم والأفكار، ما يعود بفوائد عظيمة على الأمة الإسلامية.
المصدر: وكالة صداي أفغان للأنباء (آوا) – قسم الدين والفكر
 
https://avapress.com/vdccmpq1e2bqss8.caa2.html
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني