في سُكون الحادي عشر من ذي القعدة، تتضوع أرواح المؤمنين بعطر ميلاد شمس من شموس الإمامة، الإمام الرضا (عليه السلام)، عالم آل محمد، ومصباح الهدى في زمنٍ تكاثفت فيه غيوم الفتن، وتكاثرت فيه الانقسامات.
ولد (عليه السلام) في مدينة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام 148 للهجرة، ليحمل في كيانه نور النبوة، ويتقلد من بعد آبائه ميراث الإمامة الإلهية، ويكون حجة لله على عباده في أحلك أيام الأمة.
رغم قسوة المرحلة التي عاشها، وما حفّها من تضييق سياسي، وضغوط اجتماعية، ومؤامرات دينية، تَجلّى الإمام الرضا (عليه السلام) كنبراسٍ علمي، وأبٌ رحيم، وصوتٍ للوحدة، لا يعرف الخوف ولا يعرف المجاملة على حساب الحق.
كان "عالم آل محمد" بحق، يشهد له الأعداء قبل الأحبة، ويوقّره الخصوم قبل التابعين. مناظراته مع أهل الأديان والمذاهب لم تكن ساحة انتصار شخصي، بل جسوراً نحو الحقيقة، وبصائر لقلوب أرهقها التيه والتعصب.
ما كان الإمام إلا وجهًا باسمًا، وحديثًا عذبًا، وسلوكًا رقيقًا يقطر رأفةً وحنانًا، حتى لقّبه أهل عصره، بل وكل العصور، بـ"الإمام الرؤوف". لم يكن بعيدًا عن الناس، بل كان نَفَسَهم، وأملهم، وبلسم جراحهم. حتى إذا شعر الطغاة أنّ نوره يَمتد ويشتد، دبّروا له مكيدة النفي والسم، فصار شهيد الغربة ومظلوم الغدر.
وما أعظم ما قدّمه في باب الوحدة. في زمنٍ كانت الخلافات تمزّق أوصال الأمة، وتكاد تفتك بجذورها، خرج الإمام داعيًا لاختلافٍ رحيم، وتحاورٍ حكيم، ووحدةٍ تؤلف لا تفرّق، وتبني لا تهدم. كان يرى أن اجتماع القلوب أسبق من اجتماع الصفوف، وأنّ الإسلام لا تقوم له قائمة ما لم تلتئم جراح أبنائه.
الإمام الرضا (عليه السلام) ليس صفحة من الماضي فحسب، بل هو حاضرٌ في فكرنا، وضميرنا، ومسيرتنا. هو مدرسة تُعلّمنا أن العقل لا يُخاصم الإيمان، وأن الرحمة أقوى من القهر، وأن الكلمة الهادئة إذا خرجت من قلب نقي، قد تهزم ألف سيف مسلول.